في برنامج مميز بمقدمته وعنوانه واسلوب تنفيذه فنيا، اسمه”رسالة من تحت الماء “ الذي يعرض في قناة البغدادية خطأ وحيد، وهو اختياره ضيوفه فقد تفاوتت مستويات الحلقات من ضيف لضيف
وعمد الى اختيار ضيوف من باب المجاملة ربما، او عرض ما هو متوافر في السوق الرائجة، مع اننا تعلمنا من الصحافة والاعلام. ان يكون للبرنامج توجه وفكرة وهدف عام وجمهور مستهدف، عموما ليس هذا ما اصبو اليه ولست بساع لانتقاد البرنامج، فهو برنامج ناجح بصورة عامة، الا ان ما اثارني في هذا البرنامج هو حلقة خصصت لملحن ومطرب عراقي اسمه”نصرت البدر “ حقيقة انا اشد على قلب الابداع العراقي والفني منه على وجه الخصوص، واعتبر هذه الحلقة من الحلقات الناجحة في البرنامج لتمكن مقدمة البرامج شيماء عماد زبير من امتلاك دبلوماسية بينت الضيف على حقيقته، بروح صديقة بينما”المقدم والضيف “ وتركت النهايات مفتوحة لاستقصاء العبر للمتلقي المتابع.
لكن ما اعجب منه هو تسرب روح المتاجرة في روح الاغنية العراقية، فيما يبدو ان البدر هو ملحن متمكن يمتلك مقاليد استوديو استطاع من خلاله تقديم ما يشاء من اغنيات نسبت لليافطة الغنائية العراقية، وكون ثالوثا يمثله وشاعر اسمه ضياء الميالي ومجموعة من المطربين الجدد، ممن اقحموا فاقتحموا الفضائيات بدءا من البرتقالة واغاني الملاهي المتلفزة، وليس انتهاء باغنية عنوانها بنت البنتل بل وصل الامر بان يصرح الملحن الكبير حسبما يرى نفسه البدر بان اغلب الملحنين ممن سبقوه من عمالقة الطرب العراقي، بلا اخلاق، والحمد لله بانه لم يتناولهم بالنقد الفني، ويلغيهم لانه اكتفى بان ينصب نفسه مجدد الاغنية العراقية، وبانه محق فالاغاني وصلت في البلدان العربية الى ما هو اشد انحطاطا، والاغنية العراقية عليها ان تسبق الجميع ولو في جانب الانحطاط.
هنا اقول لمبدعنا الملحن ومبدعنا الشاعر ومبدعنا المؤدي، بان ما قدمت في المدة الاخيرة من جيل الاغنية الجديد، لا يعدو ان يكون كلاما مدبجا بلا موسيقى، نحترمها وتخلد في الذاكرة ونترنم بها كترنمنا بمقدمة”انت عمري “ و”الربيع “ لام كلثوم والاطرش، او كحفظنا لموسيقى رائد جورج العراقية والفروه جي الى الان وخلودها، اذن سقط من معادلة الاغنية الملحن الذي يصوغ الموسيقى على مزاج المفردة مستعينا بقليل من الردح الايقاعي والهوسات الشعبية الدارجة فضلا عن تحوير بعض الالحان القديمة والتراثية بل وحتى الحان”اللطميات “ الى اغان.
ان المفردة الشعبية لا تعدو ان تكون في مثل هذه الاغاني عبارة عن التقاطات شعبية غير مقبولة ذوقيا واجتماعيا وخالية من الصورة الشعرية ومكسورة الوزن اغلب الاحيان، وما وجد من جميلها فهو مسروق من قصائد معاصرة تلقى داخل العراق وتنقلها الفضائيات فيسرقها من يدعون الشعر بغياب الرقيب والمحاسب لتعاد الى العراق بضاعة براقة مجوفة فتلوكها الاذان، فهل نستطيع ان نفخر بعد حين باغنية تقول”بيان صادر من قيادة قلبي “ او بـ”انعل ابو الي بجاك“ الخ من شتائم، ونقارنها بـ”عيونك زرازير البراري “ او”يا زلف يتغاوه ويه اليل باطراف الكصيبة “ .. الخ، من جواهر الشعر العامي العراقي المغنى، اذن سقط من الاغنية الشعر ايضا، وسقط اولا، حين كتب ليوائم اللحن، كما يصرحون انفسهم، والادلة كثيرة على سرقات اللحن والشعر في موجة الاغاني الحالية، او الالحان والقصائد المتنازل عنها من قبل البعض لضيق ظروفهم التي وزعتهم فقراء في المنافي، ليسقطوا في فخاخ متاجرين محظوظين اغتنموا غياب الامن عن الوطن.
ثم الاصوات التي تؤدي الان وبمساعدة الاجهزة الحديثة للتوزيع والاستوديوهات المتطورة اصبحت تصب في ركن الخشونة الخادع لاول وهلة المغري للمراهق والمراهقة وكأننا نسينا عذوبة صوت حسين نعمة وتعبيرية فاضل عواد ودفء فؤاد سالم .. فاصبحت الاغاني”عراكات “ خارجية.
اذن سقط الركن الاخير من الاغنية وخدعت الاذن العراقية والشاب العراقي حصرا لانه غير محصن بتراث لحني يعصمه من الزلل الموسيقي السماعي، ولعبت الصورة دورها، ونتجت اغان تسمع بالعين، واسيء الى الملحنين العراقيين كبارهم وصغارهم بحجة اخلاقية وكأنهم لم يخلقوا مدرسة اللحن العراقية ولم يدرسوا موسيقى العالم لتكون اغنية السبعين علما عراقيا، والمستفيد تجاريا مجموع من الشباب ربما يكرونني سبنا الا اني عندما انظر منطق حديثهم اجدني اشبه بمن يستمع لابن اخيه الصغير وهو يعاند على خطأ ارتكبه واخذته العزة بالخطأ، قارنوا ايها المستمعون بين ما سمع ويسمع الان وتخيلوا جيلا ينشأ على الضوضاء وبنات وبنين يترنمون بشتائم وعصابيات موسيقية تحببها الشاشة لهم، ربما سنخسر الكثير لكن القليل من الجمال الذي اراه في بعض الاغاني المصرة الى الان على رصانتها يدفعني للتفاؤل وان تنهض نقابة الفنانين واتحاد الادباء والشعراء واصحاب الاستوديوهات ووزارة الثقافة بمكافحة كل ما من شأنه ان يصنع الذوق على علاته، ولنهمس لنطرد الصراخ، ولنصرت البدر الذي ربما سيعتبر كتاتبي هذه نصرا له وشيوعا اقول، بان المراهقين الذين هم جمهورك الان سيكبرون ويكرهون ما سمعوه منك بعد قليل من الوعي وسينشأ جيل يؤمن بالصفاء فلا يستسيغ هذا اللون فاعمل للتاريخ فهو ابقى وصدقني انت استضفت في برنامج اسمه”رسالة من تحت الماء “ فلا تحلم يوما ان يستضاف ملحن في الكون ببرنامج ربما اسمه”رسالة من تحت العقربة “ او غيرها من الزواحف.